"إذا لم يأت محمدٌ إلى الجبل فليذهب الجبلُ إلى محمد". هذا القول المعروف عالمياً نراه على الطبيعة في "جامعة الملك فهد للبترول والمعادن" في الظهران بالسعودية. يُسّمى موقع الجامعة اختصاراً "الجبل"، ارتفاعه مائة متر عن البراري المحيطة، ويشرف على "البئر رقم 7" المشهورة، التي دشّنت عام 1938 ميلاد ما أصبحت أكبر صناعة للنفط في العالم. كان موقع "الجبل" ضمن ربع مليون كيلومتر مربع في المنطقة الشرقية حصلت شركة بترول أميركية على امتياز التنقيب فيها عام 1933. استرداد الموقع عام 1964 سجّل أول خطوة في مسيرة نصف قرن اختتمها السعوديون بامتلاك شركة "أرامكو" بالكامل، بما في ذلك اسمها الذي أصبح يعني "شركة الزيت العربية" وليس "الأميركية". والله يعلم ما في قلب "جبل الظهران" من نبض قلوب الجيل الأول من المهندسين السعوديين الذين أنشأوا الجامعة. فالأميركيون لم يكونوا يسمحون لأحد ببناء أو حفر أو شراء قطعة أرض من دون موافقتهم. وفي البداية وافقوا على التنازل عن معسكر سكن عمال النفط، قرب"جبل الظهران" لبناء كليّة لإعداد تقنيين سعوديين. وسحبوا موافقتهم حالما علموا بأنها لن تكون كلية، بل جامعة. يروي تفاصيل تلك المواجهات كتاب "جبل الظهران" Jebel Dhahran، للمهندس المعماري الأميركي والتر سايموند الذي عمل في موقع بناء الجامعة. تعاطف سايموند بقوة مع المهندسين السعوديين، وأُعجب بمناوراتهم الذكية، في إبداء استعدادهم لبيع الموقع مقابل 50 مليون ريال سعودي. وعندما استنكر رئيس "أرامكو" الثمن الباهظ الذي يريدونه لقاء ما كان قد منحه لهم مجاناً، أجاب "صالح أمبه"، أول عميد للجامعة: "نحن أحرار في أن نبيع، وأنتم أحرار في أن تشتروا"! واعترف "العميد أمبه" فيما بعد أنه كان عازماً على رفع الثمن إلى 200 مليون ريال، وإذا وافقوا يستخدم المبلغ لبناء الجامعة في جزيرة "تاروت"! كانت الأزمان قد تغيرت آنذاك. نشرت الصحف العالمية أول التقارير عن توجه السعوديين للحصول على حصة أكبر في ملكية "أرامكو"، وكان جيل الستينيات في السعودية، كما في معظم بلدان العالم يحتاج إلى كل شيء، ويريد كل شيء، ويريده فوراً. وأذعن الأميركيون مشترطين بناء الجامعة في أي مكان آخر غير "جبل الظهران" المطل على المقر الرئيسي لشركتهم. وأصر السعوديون على إنشائها في "جبل الظهران". وقبل أن يتم بناء الجامعة بلغ عدد طلابها 67 طالباً. وعندما زرتُها أول مرة عام 1997 كان عدد الطلاب قد قفز إلى 7200 بينهم 600 طالب دراسات عليا. والمهندسون، كما يُقال يبدعون ما لا وجود له، والعلماء يصفون الموجود. في "جامعة الملك فهد" يتداخل الاثنان. عدد براءات الاختراع التي سجلها علماء الجامعة كان حتى عام 1997 اثنين فقط. وتوقعتُ آنذاك أن يرفع العدد علماء شباب يبلغ معدل أعمارهم 30 عاماً، بينهم رؤساء الأقسام، وخالد السلطان، عميد "كلية علوم وهندسة الحاسب الآلي". راهنتُ على "نشاطهم العارم متعدد المستويات، ومتعدد الوسائط، ومتعدد الاتجاهات"، لكن لم يخطر ببالي أن تسجل الجامعة خلال ثماني سنوات الأخيرة 49 براءة اختراع، وبالانتظار نحو 200 براءة، جميعها تقريباً مسجلة في الولايات المتحدة، حيث الشروط عالية، والتمحيص صارم. معظم براءات الاختراع في البترول والصناعات النفطية، تليها براءات في علوم الكومبيوتر، وبعضها في مواقع متقدمة، كتقنيات النانو التي سجل بها زين يماني، مدير "مركز التميز لتقنيات النانو" براءتين. والعلماء يعملون على الحافة المتحركة للأحداث. عام 1995 التقيتُ زين يماني في جامعة "إيلينوي" في "إربانا شامبين" بالولايات المتحدة. كنتُ أشرفُ على تصوير فيلم عن أستاذه العالم الفلسطيني منير نايفة، الذي حرّك لأول مرة في تاريخ العلم ذرات منفردة وأعاد تركيبها. اكتشف نايفة بذلك مفتاح التحكم بالمادة على مستوى "النانو" التي تمثل جزءاً واحداً من مليار جزء من المتر، وهو المفتاح الذي يتنافس العالم اليوم على استخدامه لإيجاد مواد استراتيجية، كالطاقة النظيفة والماء العذب. مشهدان لا يمكن نسيانهما: نايفة يحرك بالمجهر الإلكتروني ذرات منفردة تومض وتهتز ككائن حيّ. ويُطفأ النور في المختبر، فيما تضيء الأشعة ما فوق البنفسجية بلون أحمر برتقالي كالياقوت ابتسامة زين يماني، وهو يلتقط قطعة سليكون. هل فكر يماني في تلك اللحظة بأنه سيبتكر "طريقة إنتاج جسيمات النانو السليكونية" التي قد تجعل ذرات الرمل أهم ثروة طبيعية؟ "أعطني موقع قدم ثابت واحد فحسب، وسأحرك لك الكرة الأرضية". قال ذلك المهندس الإغريقي أرخميدس. هل يقدر جبل العلم في الظهران على الخروج بالمنطقة من آخر الحروب العالمية في القرن الماضي، وأولها في القرن الحالي؟ الجواب عن السؤال قد تقدمه فيزياء "الكتلة الحرجة" التي تمثل الحد الأدنى من حجم المادة الانشطارية القادرة على إدامة التفاعل المتسلسل، أو ما يُسمى بالتعبير الشائع "الزخم"، أو قوة الدفع الذاتية. هل الجامعة هي قلب "الكتلة الحرجة" critical mass التي ولدت وترعرعت في أحضان "أرامكو"، أكبر شركة للصناعات النفطية في العالم، وتعمل معها على مدار السنة في بحوث وعقود ومؤتمرات مشتركة؟ وهل تنبض "الكتلة الحرجة" في 400 بحث نشرته الجامعة في مجلات دولية محكمة خلال العام الأخير، ونالت بها المرتبة العالمية 266 في النشر العلمي، والمرتبة 209 في الهندسة والتقنية، حسب تصنيف "تايمس كيواس" للجامعات؟ وهل تضبط "الكتلة الحرجة" خطوات إيجاد 10 كراسٍ أستاذية تموّلها وقفيات أموال عامة وخاصة، وقيام "المجلس الاستشاري الدولي" الذي يضم مدراء "مختبر الدفع النفاث" التابع لوكالة "ناسا"، و"جامعة ميونيخ التقنية" بألمانيا، و"المعهد الكوري المتقدم للعلوم"، وقادة عشر جامعات كبرى بينها "هارفرد"، و"معهد ماساشوستس للتقنية"، ثم إنشاء "وادي الظهران للتقنية" الذي يحتضن مختبرات شركات عملاقة، مثل "إنتل" الأميركية، و"سيبا" السويسرية، و"يوكوجاوا" اليابانية، وتنظيم مهرجانات "مركز سلطان للعلوم والتقنية"، والذي يستهوي الناس بمغامرات علمية مثيرة يلمسون خلالها بأيديهم برق الرعد، أو يطلقون الإعصارات، أو يحلقون بمروحيات وحوامات بحرية حقيقية؟ وقت للفلسفة ووقت للفرح، وقد شهدتُه في الأسبوع الماضي بحجم الملعب الأولمبي للجامعة. دخلت الملعب مواكب خريجي سبع كليات ترفرف راياتها، يتقدمها مدير الجامعة خالد السلطان، ويتقدم كل موكب عميد الكلية وأساتذتها، ثم الخريجون بعباءات عربية تقليدية مزينة بشرائط عريضة ذهبية وفضية وبرتقالية، حسب كل كلية. مكبرات الصوت تعلن أسماء الأساتذة والخريجين. وكما في سباقات كرة القدم، تختلط أبواق وزمارات وهتافات أصدقاء الخريجين وأهاليهم. وأعترفُ أنني هتفتُ للعراق عندما دخل موكب "كلية العلوم الهندسية" يتقدمه عميد الكلية سمير بن علوان البيات، وهو من ألمع الأساتذة من أصل عراقي، في هذه الجامعة التي تضم علماء من مختلف الجنسيات والأديان والمذاهب الإسلامية. القانون هنا هو قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: "يُبعثُ العالمُ والعابدُ فيقال للعابد: ادخل الجنة. ويُقالُ للعالم: اتئدْ حتى تشفع للناس".